TransitLab تسعى لتغيير مشهد النقل العام في بغداد
في خمسينيات القرن الماضي، كانت تجول في شوارع بغداد باصات من طابقين، أو كما يسميها سكان بغداد: «المصلحة» أو «الأمانة»، في إشارة لأمانة أو بلدية بغداد. كان النقل العام يحاكي شوارع العاصمة البريطانية، لندن. استوردت أول أسطول من الباصات من قبل مصلحة النقل العامة في عام 1956، التي تعاقدت مع الشركة البريطانية AEC للحصول على 100 باص. اختالت هذه الباصات في شوارع بغداد، جاعلةً إياها أول عاصمة في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا تحظى بنظام نقل عام من هذا النوع حينذاك.
كان للباصات لوحات بأرقام تظهر الخط التي تعمل عليه وأسماء المحطات. ما يزال مواطنو بغداد يذكرون كل رقم والمناطق التي يشير إليها؛ فمثلًا، كان الرقم أربعة لخط «ساحة الميدان – شارع رشيد – القصر الأبيض». غطت شبكة الخطوط هذه معظم مناطق بغداد وكان المواطنون يعتمدون عليها، بأوقات وصول ومغادرة محددة ثابتة منذ ساعات الصباح الباكر. بل وكانت بعض الباصات تستعرض حتى دعايات للشركات المشهورة حينذاك، وكان موظفو النقل العمومي: سائقين ومحصلي أجرة ومفتشين، يرتدون ثيابًا موحدة رسمية ويديرون نظام قطع التذاكر الزهيد بنجاح.
في سبعينيات القرن، استوردت موديلات أخرى من باصات الطابقين من الشركة البريطانية ليلاند والشركة الألمانية M.A.N، وكل منها يحمل نحو 80 راكبًا. على عكس باصات كيا أو الكوسترات اليوم، والتي تتسع لمجرد 12 راكبًا، كانت هذه الباصات توفر سعة أكبر بكثير.
خلال التسعينيات، وبسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على العراق، كادت الباصات تختفي بسبب اختفاء قطع الغيار من السوق. وبنظرة سريعة إلى اليوم نجد أن مركبات النقل المتاحة هي الكيا|، الكوسترات، والتوك توك، والتاكسي. ومعظم هذه الوسائل مملوكة للقطاع الخاص، ما يؤدي إلى نظام فوضوي يعاني من العديد من المشاكل.
فيصل مهندس مدني حاصل على شهادتين بدرجة الماجستير في في علوم المعلومات الجغرافية GIS والبيئة. وقد تعاون مع علماء البيانات لتغيير واقع قطاع النقل العام في العراق واستعادة أمجاده السابقة من خلال مبادرتهم، TransitLab. وقد استوحى الفريق الذي يتخذ مقره من محطة بغداد عمله من قصص نجاح في مدن تواجه تحديات مماثلة، كالقاهرة، وهو يعمل نحو نظام نقل عام أذكى وأكثر إتاحةً للجميع في بغداد.
المشكلة
الاصطلاح الأدق لوصف نظام النقل العام في بغداد هو نظام ‘Paratransit’، والذي يجمع بين وسائل النقل العامة والخاصة معًا. يشمل القطاع العام الباصات التي تديرها الشركة العامة لنقل المسافرين والوفود، بينما يتكون القطاع الخاص من سيارات الكيا والكوستر المسجلة من قبل إدارة النقل الخاص.
حاليًا، يهيمن القطاع الخاص على المشهد، ما يؤدي إلى نظام نقل فوضوي وغير موثوق. وينتج عن هذه الهيمنة خطوط نقل تفتقر الكفاءة وجداول مواعيد لا يمكن الاعتماد عليها. يعتمد الركاب على العادات الاجتماعية لمعرفة أوقات كل باص ويتنبؤون بمكان توقف الباصات بالتحزير لعدم وجود مواقف رسمية للباصات.
يعود جزء كبير من التخديات التي تواجه نظام النقل الحالي في بغداد إلى عدم وجود تدريب كافٍ وانعدام التوافق بين المعرفة الأكاديمية والتطبيق العملي من قبل الهيئات الحكومية.
وحسب كلام فيصل فإن «الهيئات الحكومية متخلفة بشدة عن استخدام التقنيات الحديثة لأنظمة المعلومات الجغرافية وجمع البيانات»، مرجعًا السبب إلى «عدم وجود تدريب وجعل الموظفين يعملون في مجالات غير خلفيتهم الأكاديمية».
أثرت الخدمة غير المنظمة، وطرق النقل غير الكفوءة، وعدم وثوقية وجود الوسائل في وقتها على الوصول إلى الوظائف والخدمات الرئيسية. وبعدم وجود مواعيد واضحة، غالبًا ما ينتظر الركاب امتلاء الباص للانطلاق، ما يمكن أن يستغرق وقتًا طويلًا.
وعلاوةً على ذلك، فكثيرًا ما تتوقف بعض خدمات النقل في المساء (أحيانًا حتى من الساعة 5 مساءً)، ما يترك الكثيرين بخيارات محدودة للتنقل بأسعار مقبولة.
المبادرة
تهدف TransiitLab إلى التعامل مع هذه المشاكل من خلال جمع بيانات النقل العام وجعلها متاحة للجميع من خلال تطبيق. وسيساعد التطبيق الذي يجري تطويره حالياً كلاً من المواطنين والأجانب بهدف تسهيل تنقلهم ضمن نظام النقل في بغداد.
ما أن ينتشر استخدام التطبيق يين العامة بشكل منتظم، يمكن أن يشكل تطبيق TransiLab أداةً لإيجاد الحلول للعديد من المشاكل كتحديد المناطق الأفضل لوضع مواقف الباصات واحتمال الاستثمار في محطات التوقف هذه للإعلانات ولتوفير خدمة أفضل لزيادة عوائد النقل في نهاية المطاف.
بدأت TransitLab بجمع البيانات عن خطوط الباصات، وأوقاتها، واستخدام الركاب لها من خلال شبكة متطوعين مع أجهزة تحديد مواقع GPS على هواتفهم المحمولة.
وبأكثر من 300 متطوع على وسائل النقل العامة، يسجلون الطرق، والمحطات، وأعداد الركاب، أدخلت البيانات إلى نظام معلومات جغرافي GIS لتحليلها.
“نحن نسعى لتحصيل ثلاقة أنواع من البيانات”، كما يشرح فيصل: “الأول جمع الخطوط من البداية حتى النهاية والشوارع التي تمر بها، وبيانات عن عدد الرحلات حسب الوقت، ومدى توافر الخط ولأي وقو، وأخيراً بيانات عن أوقات العمل من الصباح إلى منتصف الليل. مثلاً: تعمل خطوط منصور حتى ساعات متأخرة من الليل.
من الطرق الأخرى لجمع البيانات بوت التلغرام الذي صممه خبير علم البيانات لكى TransitLab عمر القيسي. ويجمع البوت البيانات من متطوعين خلال رحلاتهم اليومية، وتشمل البيانات نوع المواصلات، وكم دفعوا، وحالة السيارة والمزيد. ويمكنكم تجربة البوت من هذا الرابط
وقد أطلقوا أيضًا استبانةً عامةً لجمع المعلومات عن مدى استخدام الناس لوسائل المواصلات العامة. وحصدت الاستبانة 2٫000 مشترك من خلفيات متنوعة، ومن أوضاع اجتماعية متنوعة، ومن الجنسين، ويستخدم 70 بالمئة منهم المواصلات العامة بشكل منتظم و50 بالمئة منهم طلاب.
وقد وفرت الاستبانة رؤية ثمينة لدراسة الوضع الراهن فيما يخص النقل والمواصلات في بغداد وكيفية التعامل معه. “صممت بعض الأسئلة خصيصًا بشكل مفصل” حسب فيصل، الذي أردف: “مثلًا، ظهر سرال عن التحرش للنساء فقط”.
ومن الحلول التي اقترحها المشاركون تركيب كاميرات داخل الباص، وتغيير تصميم المركبات بحيث تناسب راحة الركاب بشكل أفضل، وزيادة ارتفاع السقف، وتوفير تكييف، والتعامل مع مشكلة عدم التزام السائقين بالأوقات.
دروس مستفادة
أجاب 57 بالمئة من المشاركين بنعم على سؤال “هل تستعمل وسائل المواصلات العامة في بغداد؟” بينما انقسم البقية بين من كانوا يستخدمونها سابقًا ولم يعودوا يستخدمونها وبين من لا يستخدمها بشكل عام.
بالنسبة لأولئك الذين يستخدمون المواصلات العامة ، أجاب 40 بالمئة أنهم يفعلون ذلك كل يوم، و17 بالمئة بشكل نادر، و14 بالمئة مرة في الأسبوع، يينما أجاب 7 بالمئة فقط أنهم يستخدمونها مرة في الشهر.
قدمت لائحة من الأسباب المحتملة لمن لا يستخدمون المواصلات العامة ليبرروا سبب امتناعهم. وكان أكثر جواب متكرر سوء وضع المركبة، يليه عدم وجود محطات واضحة ومحددة، ثم امتلاك مركبة خاصة، فكون الخدمة تستهلك الكثير من الوقت، أو السلوك السيئ للسائقين، أو عدم وجود أمان، أو أن الخدمة ببساطة غير متاحة في مناطقهم.
وفقًا ل32 بالمئة من المساركين في الاستبانة، فإن المسافرين في بغداد يحتاجون 5-10قائق للوصول إلى أقرب موقف باص، بينما أجاب 26 بالمئة أن الأمر يستغرقهم أقل من 5 دقائق. أخيرًا، عند السؤال عن أكثر مركبة يشتخدمها الركاب في تنقلاتهم اليومية، احتلت الكيا المركز الأول بنسبة 61 بالمئة، يليها الكوستر 27 بالمئة، والباص أخيرًا بنسبة 8 بالمئة فقط.
صوت نحو 7 بالمئة لوسائل نقل أخرى، والتي قد تشمل التوك توك الصغير و”الستوتة” الأكبر منه قليلاً.
التحديات والأثر في المستقبل
على الرغم من التقدم البارز في خلال فترة قصيرة، تواجه TransitLab تحديات في جمع البيانات من الهيئات الحكومي. التي إما أنها لا تحمع البيانات المطلوبة أو ترفض مشاركاها. إضافةً إلى ذلك، ليس هناك معايير واضحة لجمع البيانات، وتستمر الضبابية وسوء الفهم فيما يخص أنظمة المعلومات الجغرافية GIS وإجراءاتها.
الهدف بعيد المدى لترانزيت لاب هو مكاملة خطوط نقل بغداد مع خرائط جوجل بحلول عام 2025، ما يتيح مصدرًا موثوقًا وشاملًا للمعلومات لمستخدمي المواصلات العامة. وستساعد هذه البيانات في التعرف على المواقع المثلى لمواقف الباصات، وتغطية المحطات الأصلية، وفي تحسينات عامة للخدمة ككل.
علاوةً على ذلك، تهدف TransitLab لمشاركة موفري الخدمات وتحسين سياسات النقل والمواصلات من خلال رعاية التعاون بين الهيئات الحكومية، والمستثمرين، والسائقين لتشجيع وضع سياسات تصب في مصلحة كل الأطراف المعنية.
“معظم مركبات المواصلات هذه يملكها مستثمرون، لا السائقون أنفيهم”، حسب ما قال فيصل. “يمكننا تأسيس اتحاد لهم لضمان جودة الخدمة، وتحسين السياسات، وضمان إرضاء جميع الأطراف”.
من السياسات المقترحة من قبل المبادرة تحسين المواصلات بين بغداد والمدن الأخرى، وتفعيل الدفع الإلكتروني، وتأسيس نظام تذاكر، وتحسين تصاميم المركبات، وتشييد مواقف رسمية للباصات، واستخدامها كفرص استثمار للتسويق والإعلان، ووضع الإعلانات في المركبات ذاتها.
الاستدامة والنمو
يهدف التطبيق، والذي من المقرر إطلاقه بنهاية عام 2024، لتحقيق الاستدامة من خلال الإعلانات،. والدعم الحكومي، وبيع البيانات للمستثمرين لتحفيزهم على تطوير قطاع ما وراء النقل Paratransit من خلال مفهوم مواقف الباصات الرقمية.
عرض نموذج أولي على انظمة أندرويد في مؤتمر التحول الرقمي في بغداد يوليو 2024. ومن خلال إشراك المستخدمين في جمع البيانات وتوفير فرص العمل لأخصائيي أنظمة المعلومات الجغرافية GIS، يتصور ترانزيت لاب مقاربةً مستدامة وتعاونية لتحسين نظام النقل العام في العراق.
لدى TransitLabالقدرة على إعادة إحياء نظام النقل العام في العراق وبث الروح التي كانت فيه، من خلال جهود المتطوعين من أجيال لم يتح لها قط مشاهدة هذا النظام أصلاً.